المقدمة
لا نبالغ إن قلنا إن «الحوار» أصبح سمة عهدنا الحالي. الحوار يعني قيام المجموعات المختلفة للجماعات الإنسانية التي تعيش معاً بحوار فيما بينها محاولين بذلك فهْم أحدهم للآخر والاعتراف به واستخراج الأسس المشتركة الموجودة بينهم على قدر الإمكان والتي تشكّل أرضية قانونية تساعدهم على العيش معاً بأمن وسلام.
ومن زاوية النظرة القرآنية فإن البشر خُلقوا بخصائص غنية ومختلفة، وإن من الخطأ اتخاذ هذا الاختلاف سبباً للصراع وللخصام؛ فمثل هذا الخطأ سيؤدِّي إلى الإخلال بالأمن وبالسلام، ويُلحق ضرراً كبيراً بالإنسانية، وينسف جميع جسور التفاهم. بينما الصواب هو عدّ كل هذه الاختلافات كزهور فوّاحة تملك كل زهرة منها جمالاً وعطراً خاصّاً بها تشكل حديقة إنسانية مباركة.
هناك طريقان لتعايش الناس معاً؛ أحدهما استعمال القوة والبطش، والثاني قيام الأناس الأحرار بالوصول إلى التفاهم فيما بينهم وإرساء هذا التفاهم بعقد قانوني معيَّن، وتعيين أسلوب التصرف والتعامل وحقوق كل إنسان ومسؤولياته. ولم توضع الدساتير والقوانين والعهود والمواثيق الإنسانية إلاّ لتأمين هذا الأمر. ولا شك أنه لولا وجود متونِ ونصوص المعاهدات والمواثيق لَما تحقق أي سلام اجتماعي ولا أي وحدة سياسية. ولكن المهم هنا أن هذه المعاهدات يجب أن تسجل بإرادة إنسانية حُرة وبرِضَا الأطراف ودون أي إكراه.
والمواضيع المطروحة حاليّاً أمام الديمقراطية مهما تباينت وِجْهات نظرنا مدحًا أو ذمًّا، وكذلك المقاييس التي يتخذها ويتّبعها أيُّ نظام سياسي هي لتأمين قيام كل مجموعة من المجموعات الاجتماعية المختلفة باستعمال إرادتها بكل حرية لتؤثّر على مراكز اتخاذ القرارات ومعرفة مدى استعمال المؤسسات المدنيّة لحقوقها في التعبير.
ويمكن القول بأن الإسلام يملك في هذا الموضوع تراثاً غنيّاً. فقد قام التاريخ الإسلامي والتجربة التاريخية للإسلام بشكل عام على قبول الخصوصيات المتنوعة لكافة المجموعات المختلفة دينية كانت أم قومية أم ثقافية أم لغوية. وقد وَجدت أديان ومذاهب وثقافات عديدة وأقوام عديدون إمكانيةَ العيش بأمان في ظل الإسلام.
وإن وثيقة المدينة مثال واضح وجيد طبّق في الواقع العملي فعلاً وأنموذج للعيش معاً بسلام. فلنطالع وثيقة المدينة ونتفحصها من هذه الزاوية.
القيمة التاريخية للوثيقة
كان المستشرق الألماني «ولهاوسن- Wellhausen» أول من عرّف هذه الوثيقة وقدمها للأوساط العلمية في العصر الحديث. وندين إلى الأستاذ محمد حمِيد الله رحمه الله وإلى بحوثه الواسعة في اشتهار هذه الوثيقة في العالم الإسلامي، وفي معرفتنا معرفة شاملة بالظروف التاريخية وبالبيئة الاجتماعية عند صدور هذه الوثيقة.
كان أول من سجل هذه الوثيقة هو محمد بن إسحاق (توفي 151 هـ)؛ ويقال بأن ابن سيد الناس وابن كثير قاما بتسجيل هذه الوثيقة ودَرْجها في كتبهما؛ كما قام البيهقي بإدراج الفقرات «1-23» الخاصة بتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار وبيان سنَدها. وذكر ابن هشام (توفي 213 هـ) هذه الوثيقة في كتابه «السيرة النبوية» بصورة أكثر تفصيلاً من ابن إسحاق. وترِد الوثيقة أيضاً بكاملها في كتاب «الأموال» لأبي عبَيد، وفي كتاب «الأموال» لحميد بن زنجويه (توفي 247 هـ).
وتشير كتب الحديث إلى أن الفقرات «1-23» التي تتناول العلاقات فيما بين المسلمين كتبت في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ أما الفقرات «24-47» التي تنظم علاقات المسلمين مع المشركين واليهود فكتبت في بيت بنت الحارث. علماً بأننا -إن أهملنا أسماء القبائل والأماكن- نجد أن جميع الأسس القانونية لهذه الوثيقة وجميع الأحكام والمبادئ الواردة فيها موجودة في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
والأرجح أن هذه الوثيقة كتبت ووقع عليها في العام الأول للهجرة (622 م)، وقد قام «ولهاوسن» بتجزئة المتن الأصلي الذي أورده ابن هشام وأبو عبَيد إلى 47 فقرة، ثم قام حمِيد الله بتجزئة بعض هذه الفقرات فيما بينها فبلغ هذا الرقم إلى 52 فقرة.
البيئة الاجتماعية
إن الدعوة الإسلامية التي بدأ بها نبيّنا صلى الله عليه وسلم في مكة عام 610م لم تجلب إلى الإسلام إلا نفَراً معدودين. وعندما زاد عددهم بمضي الوقت جُوبهوا بعراقيل ومضايقات عديدة. وبعد مضيّ 13 سنة في مكة بقي عدد المؤمنين محدوداً، فلم يبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلا الخروج من مكة إلى مكان آخر يجدون فيه الحرية والأمن، لذا اضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة مرتَين في بادئ الأمر ثم إلى المدينة.
كانت مكة من أهم مراكز السياسة والتجارة في شبه الجزيرة العربية. ومما كان يزيد من أهميتها وجود الكعبة فيها -وكانت من أهم المراكز الدينية منذ السابق- ووجود أكبر القبائل العربية وأعرقها فيها. ونظراً لخصائصها هذه، فقد نُظمت مكة تنظيماً جيداً من الناحية السياسية والإدارية. وبجانب مركزيتها السياسية والبيروقراطية كانت تبدو -بسبب وجود القبائل الحرة فيها- في مظهر حكم كونْفدرالي، إلا أن المدينة -مدينة الهجرة- كانت تفتقر إلى مثل هذه الوحدة السياسية. لأنه بينما كانت قبيلتا قريش في مكة وثقيف في الطائف تُحققان الوحدة السياسية، إلا أن هذه الوحدة السياسية لم تكن متحقّقة في المدينة لوجود نزاع مستمر وحروب بين القبائل الموجودة فيها كقبيلتَي الأوس والخزرج العربيتَين والقبائل اليهودية (قبائل بني قَينقاع وبني النضير وبني قرَيظة). ويقول «ولهاوسن» إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجَح في إرساء وحدة سياسية عجيبة في ذلك الجو المضطرب في المدينة بين هذه القبائل التي كانت في حاجة ماسّة إلى وحدة سياسية. وكانت هذه الوحدة السياسية أمراً جديداً وغريباً لم يألَفه العرب. وتيقن الباحثون بأن الفروق بين مكة والمدينة من ناحية البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ساعدت على تجذر المسلمين في المدينة وعلى قيام وحدة سياسية جديدة هناك.
كان غياب وجود سلطة سياسية مركزية في المدينة ينعكس حتى على الحياة الاجتماعية وعلى ساحة الدفاع أيضاً. فعدم وجود دفاع مشترك في المدينة أدى إلى قيام كل قبيلة ببناء سور دفاعي قويّ لها. ويذكر ابن النجّار وجود 13 سوراً للعرَب. كانت هذه الأسوار بمثابة «غِيتُو» يفصل كل قبيلة أو مجموعة من القبائل عن القبائل الأخرى. وكانت مصاريف الدفاع المشترك -وهو أمر خاص باليهود- تُدفع من قبل صندوق شعبي. أما القبائل العربية فقد أسّست ما يشبه صندوق الضمان الاجتماعي لدفع مبالغ الديات. ومع أن اليهود كانوا يملكون التوراة إلا أنه لم يكن هناك قانون مكتوب ينظّم العلاقات بين الأفراد وبين القبائل. وكانت الخلافات والمنازعات تُحَلّ في الغالب حسَب الأعراف السائدة ومن قِبل حكام. ولكن نظراً لعدم وجود قوانين واضحة فإن الأطراف القوية لم تكن تأبه لقرارات هؤلاء الحكام مما كان يعني دوام الظلم وضياع الحقوق.
كانت نسبة من يقرأون ويكتبون في المدينة نسبة ضئيلة، وكان اليهود يتكلمون العربية، ويكتبون العربية بالحروف العِبرية. وكانوا يؤدون عباداتهم ويعلّمون أبناءهم في «بيت المِدْراس» أو «المدارس». بينما كان العرب محرومين حتى من هذه الفرصة الضئيلة. ونظراً لأنهم كانوا لا يملكون كتاباً (أي كانوا أمّيين) كانوا يشعرون بالضآلة والنقص أمام اليهود.
لم تكن المجموعتان العرقيتان (أي العرب واليهود) مجموعتين متجانستين. والشيء الذي يجلب الانتباه أنه بينما كانت هناك معارك بين العرب واليهود، كانت هناك معارك بين القبائل العربية ومعارك بين القبائل اليهودية كذلك. فحسَب المعلومات التي أوردها ابن هشام فإن القسم الأكبر من قبيلة بني قَينُقاع اليهودية كانوا حلفاء لقبيلة الخَزرَج العربية. وكان القسم الأكبر من قبيلتي بني النضِير وبني قرَيظة حلفاء لقبيلة بني أوس العربية. ولكن المعارك الكبيرة كانت تجري بين قبيلتَي الأوس والخزرج. ويذكر المؤرخون أن حرب «بُعاث» الطاحنة بين الأوس والخزرج استمرت 120 عاماً.
والحقيقة أن هذه الحروب الضروس بين هاتين القبيلتين -اللّتَين كانتا تنحدران من قبيلة واحدة هي قبيلة بني قَيل- دفعت المدينة وما حواليها إلى الفوضى والاضطراب، وأخلّت بالأمن وأثارت نوعاً من اليأس والقنوط. وقبل أيام من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكّر أهل المدينة في تنصيب عبد الله بن أُبيّ ملكاً عليهم لكي يتم تأسيس سلطة مركزية تضع حدّاً لهذه الصدامات والنـزاعات.
ونظراً لكون أهل المدينة على اتصال وثيق مع بِيزنطة ومع فارس فقد رأَوا أن النظام الملكي يمكن أن يؤسس النظام ويُنهي الفوضى. ولكن سجايا عبد الله بن أبيّ كانت ضعيفة، فقد كان شخصاً ضيق الأفق حريصاً على مصالحه، وكانت الخلافات العميقة التي تعصف بالمدينة تتجاوز طاقته كثيراً. وقد سهّل غيابُ السلطة السياسية المركزية في المدينة قدومَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها. فحسَب رأي السيدة عائشة رضي الله عنها فإن الجو المضطرب للمدينة ساعد على تقوية مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.